.ما جاء في الكي والبط وقطع العروق:
قال عبد الملك بن حبيب: الكي والبط وقطع العروق مكروهة إلا من اضطر إليه لداء لا دواء له إلا فيه، وأمر لا يوجد فيه بد فإما على حال التداوي في ما فيه المندوحة بغيره عنه فلا يجوز فعله.
لم تزل الكراهية فيه في الآثار، وفي الفتيا من أهل العلم. وعن قتادة أن رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شاك قال: يا رسول الله لو اكتويت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل اكتو أنت» فما مات الرجل حتى اكتوي تسعا وتسعين كية. وروى إبراهيم النخعي أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتوي ثلاث مرات فنهاه ثلاث، فاكتوى الرجل بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب صلى الله عليه وسلم لما أخبر به، ثم قال: «إذا أحرقه الله فأحرقوه». وجاء رجل أيضا إليه صلى الله عليه وسلم فقال له: إن بي عرق النساء، وقد أردت قطعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقطعه ولكن استرق له وخذ إلية كبش عربي أسود فيذاب، ثم اشربه على الريق ثلاثة أيام وادهنه به فإنه ينفع بإذن الله من عرق النساء». ونهى ابن مسعود عن قطع اللهاة. وعن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص أنه أصابته ذات الجنب فدعا له أبوه طبيبا يكويه فقال له عمر بن الخطاب: لا تمس ابنك نارا فإن له أجلا هو بالغه لن يعدوه ولن يتأخر عنه. فولى علقمة بن وقاص راجعا فنادى عمر فقال له عمر: اعلم إن الذي كرهته لك هو كما ذكرت، وهو حدث بابنك حدث في وجعه هذا لم يزل علي في نفسك من نهيي إياك شيء اذهب فاصنع ما رأيت. وروى ابن سعيد بن زرارة: أصابته الذبحة فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكي فنهاه فأبى سعد إلا أن يكتوي. فاكتوى فمات.قال عبد الملك: وقد اكتوى بعضهم على حال الاضطرار إليه إذ لم يجد منه بدا ولا عنه غنى بغيره. وعن جابر بن عبد الله أن ابن سعد بن أبي وقاص رمي بسهم في يده فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيبا فكواه على موضع الرمية. وروى مالك عن نافع عن عمر أن اكتوى من اللقوة. وقال مالك: لا بأس بالكي، والبط، وقطع العروق لمن اضطر إليه ولم يجد من بدا. وروي أن خباب بن الأرت اكتوى سبعا في بطنه لما لم يجد منه بدا. وعن أنس بن مالك أنه اكتوى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذات الجنب. وروي أن المقداد بن الأسود كان عظيم البطن قد أضر به الشحم وغمه حتى كان يوقفه على الموت، فبط بطنه مرتين يخرج منه الشحم على غير مرض إلا كثرة الشحم. فمات من ذلك على آخر البط. وخرج عروة بن الزبير إلى الوليد بن عبد الملك فأصابت رجله الشافة فعظمت ثم آلت إلى الأكلة فأراد عروة قطعها فدعا له الوليد الأطباء فقالوا له: إن أنت قطعتها قتلت نفسك. فقال: لابد من قطعها فاقطعوا. قالوا: فنسقيك المرقد. قال: ولم؟ قالوا: لئلا ترى ولا تحس ما نصنع لك. قال: لا أشربه. فأخذوا منشارا فأحموه حتى صار كالجمرة ثم قطعوا به ساقه فوق الكعب بأربعة أصابع ثم أدخلوها في الزيت تفور فما تحرك. فلما قطعت ونظر إليها موضوعة أمامه قال: أما إنه يعلم أني لم أمش بها إلى معصية قط، ثم أمر بها فغسلت فكفنها في قبطية، ثم أمر بها أن تدفن في مقابر المسلمين.
.ما جاء في امرأة يموت ولدها في بطنها ويكون الجرح في موضع العورة فتحتاج إلى علاج الطبيب:
وعن الأوزاعي أن امرأة عسر ولدها في رحمها فأمر عمر بن عبد العزيز الطبيب أن يقور ثوبها على فرجها ويدخل يده فيقطعه ففعل، ثم جعل يعضيه في رحمها عطوًا عطوًا وقال: لا بأس بذلك. وعنه أيضا، وعن مكحول، وعطاء وغيرهم من التابعين قالوا: في المرأة بها الجرح وغيره لا بأس أن يداويها الرجل يأخذ ثوبها فيلف به ما حول الفرج حتى لا يرى غير الجرح ثم يداويه.
.ما جاء في ضمان الطبيب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطبب ولم يعرف قبل ذلك بطب فهو ضامن». وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتقدم إلى المتطببين ويقول: من وضع يده من المتطببين في علاج أحد فهو ضامن إلا أن يكون طبيبا معروفا. وأنه قدم طبيبا معروفا من نجد فداوى رجلا من الأنصار فمات فرفع إلى عمر بن الخطاب فقال: ما حملك على أن تضم يدك على هذا، وليس لك طب تعرف به؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنا طبيب العرب، ولكن أجله انقضى. فسأل عنه عبادة بن الصامت فقال عبادة: يا أمير المؤمنين هو من أطب الناس. فخلاه عمر. قال عبد الملك: وإنما تفسير هذا أن يموت المريض من علاج الطبيب من بطه، أو كيه، أو من قطعه، أو من شقه، ولم يخط يده في شيء، ولم يخالف فعند ذلك لا يكون عليه ضمان إذا كان معروفا بالطب، وإذا لم يكن معروفا بالطب فهو ضامن لذلك في ماله ولا تحمل ذلك العاقلة، ولا قود عليه لأنه لم يتعمد قتله وإنما أخطأ الذي طلب من أصابت مداواته بجهله ذلك، وعليه من السلطان العقوبة الموجعة بضرب ظهره وإطالة سجنه، ومنعه من أن يعالج بعده أحدا. قال عبد الملك: فأما إذا أخطأ الطبيب في كيه، أو بطه، أو شقه فيكون حيث لا يكون، أو يقطع عرقا لا يقطع، أو يبط حيث لا يبط، أو يسقي ما لا يؤمن شربه، أو يجاوز قدره فيموت من ذلك فهو ضامن، وإن كان طبيبا معروفا بالطب وبالبصر به لأنه جناية يده بخطأ، وذلك على عاقلته إذا جاوز ما أصاب ثلث الدية، ولا عقوبة عليه لأنه لم يقدر بجهل، ولم يتعمد بيد، ولا بقلب حتى زلت يده في جعلها أو حديده لسرعتها. وكذلك قال مالك: إذا كان الطبيب معروفا بالطب فلا ضمان عليه إلا أن يتعدى أو يخطئ فيكون ذلك على العاقلة عن بلغت ثلث الدية وإن كان أقل من ذلك ففي ماله. قال عبد الملك: وكذلك الخاتن يختن فيموت الصبي من اختتانه إن كان بصيرا بعمله معروفا به فلا شيء عليه وإن لم يكن معروفا فهو ضامن لذلك في ماله وعليه العقوبة. قال: وإن كان أخطأ فقد أكشفه، أو بعضها، أو قطع ما لا يقطع، أو مضت يده إلى البيضة، أو ما أشبه ذلك من الخطأ وتعدى الصواب فهو ضامن. كان بصيرا بعمله معروفا به أو غير معروف. وإن كان غير معروف به ففي ماله قليلا كان أو كثيرا وإن كان بصيرا بعمله معروفا به فذلك على عاقلته إذا جاوز ذلك ثلث الدية، وإنما يفترقان في العقوبة يعاقب غير المعروف بذلك العمل، وتصرف العقوبة عن المعروف بعمله البصير به. كذلك قال مالك في ذلك كله، وقضى عمر بن عبد العزيز في خاتنه كذا، فمات الصبي فالدية على عاقلتها.
قال عبد الملك: وإن كان الطبيب نصرانيا فيسقي المسلم فمات فعلى السلطان أن يكشفه عما سقاه، وإن كان طبيبا معروفا بالطب والبصر به للظنة التي تواقعه لعداوة النصارى للمسلمين، وما قد اضطرب الموت وجدر القول به: إن أطباءهم يتعمدون سقي المسلم ذي القدر في الإسلام ما يقتله به. فأولى للسلطان أن يشتد في ذلك على من مات منهم على أيديه. ويبالغ في الشدة عليه في الضرب والحبس والكشف على الدواء بعينه، وإن أمنع ذلك، يمنع المتهم منهم الظنين ب الجرأة على ما وصفوا به من سقي المسلم ذي القدر في الإسلام من المتطبب ويشعر منعه ويتقدم إليه في ذلك. وروي أن طبيبا نصرانيا بالشام سقى سليمان بن موسى شربة فمات منها وكان سليمان كبيرا من فقهاء الشام وذلك في عهد هشام بن عبد الملك، فأرسل هشام إلى غلام سليمان فقال له: أتعرف القارورة التي أخذ الطبيب منها الدواء؟ فقال: نعم. فأتى هشام بالطبيب وبما في بيته فعرف الغلام القارورة بعينه. فقال هشام للطبيب: اشرب منها مثل ما سقيته. فقال: بل أشرب من هذه الأخرى. قال هشام: لا والله إلا من هذه. فشرب منها فمات. قال عبد الملك: وكان الطبيب قد اتهم أن يكون إنما سقاه ليقتله لفضل سليمان بن موسى ومكانه من الإسلام، وكان الطبيب نصرانيا، فلذلك أمره هشام أن يشرب من حيث سقاه تهمة له أن يكون إنما سقي سما وما أشبهه فكان ذلك كذلك.
.ما جاء في مداواة الجراح:
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دوي ما أصيب بوجهه يوم أحد برماد حصير محرق. وقال عبد الملك: أراه كان حصيرا من دوم لأنها حصر المدينة، وأما الحلفاء فلم أره بها.
.ما جاء في التعالج بالسعوط واللدود والوجور والغمر والتمريخ والكماد والتلديغ:
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غشي عليه في مرضه الذي مات منه فتخوفوا أن تكون به ذات الجنب فلددوه فوجد خفافا فأفاق فقال: «ما صنعتم؟» قالوا: لددناك يا رسول الله. قال: «بماذا؟» قالوا: بالعود الهندي يعني الكست وبشيء من ورس وقطارات من زبد. قال: «من أمركم بذلك؟» قالوا: أسماء بنت عميس. قال: «هذا طب أصابته بأرض الحبشة». ثم قال: «لا يبقين أحد في البيت إلا التد إلا ما كان من عمي» يعني العباس. قال: «ما الذي تخافون علي؟» قالوا: ذات الجنب. قال: «ما كان الله ليسلطها علي، ولكن هذا من شأن اليهودية يوم خيبر، هذا أوان قطع أبهري». قال عبد الملك: وسمعتهم يستحبون للمريض السعوط واللدود والغمس والتمريخ والكماد والتلديغ ويذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن العلق، وقال: «السعوط مكانه». ونهى عن الكي وقال: «اجعلوا الكماد مكانه، والتلديغ». وقد سعط رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عطا بن أبي رباح: اللدود سبعة أشفية لسبعة أدواء. منها ذات الجنب. يلد بالكست، والورس، والملح الدراني.
وعن جابر بن عبد الله قال: حطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لسعد بن زرارة من الذبحة. حطر: لدغ. التحطير هو التلديغ. قال عبد الملك: وتفسير التلديغ: أن تحمى المسلة وما أشبهها من الأبر أو الحديد الدقيق فيلدغ بها صاحب الذبحة، أو من غشي عليه عنقه فلم يستطع أن يلويه، وما أشبه ذلك من الأوجاع فكذلك التلديغ ويغني عن الكي، والكماد معه يغني عن الكي. وتفسير الكماد: أن يسخن الملح ثم يربط بخرقة فيكمد به موضع الوجع من البطن، أو الجسد، أو يحمى الشقف فيفعل به مثل ذلك. والملح، والشعير، والرماد السخن خير من الشقف. الغمر: غمر القدمين والساقين واليدين والذراعين وسائر المفاصل والجسد فإنه جيد. والتمريخ: أن يمرخ جسده بالدهن إن كان به حرارة فيدهن، أو بالبنفسج، وإن كانت به برودة فبالزيت يسخن بشيء من خل، وإن كان من مليلة فالصندل يسخن ويحتمل ثم يذاب بالدنبق حتى يصير كالمخ فيمرخ به الجسد والمفاصل فإنه يذهب المليلة وأوجاع الجسد كلها. وأما اللدود: فبأن يعالج الذي وصفنا فوق هذا من اللدود فيجعل في ملدة ذات أنبوبة، أو مجار مثله، ثم يرفع اللسان فيصب تحته.
وأما العلق فهو الأعلاق: وتفسيره أن يرفع اللهاة ويدخل الإصبع في الحلق فيخدش الحلق بها أو بعود حتى يدمى. والنفخ: أن يسد فمه وينفخ في مخرجه، أو يسد مخرجه وينفخ في فمه. وقد نهي عنه وعن العلق. وعن الشعبي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا السعوط مكان العلق واللدود مكان الكي». وعن أم قيس بنت محصن أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها وقد أعلقت عنه من العذرة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علام تدغرن أولادكن بهذا الأعلاق؟ عليكم بالعود الهندي فإن فيه سبعة أشفية يلد من ذات الجانب ويسعط من العذرة».
.ما جاء في التعالج بالحقن:
قال عبد الملك بن حبيب: كان من مضى من السلف وأهل العلم يكرهون التعالج بالحقن إلا من ضرورة غالبة لا يوجد عن التعالج لها بالحقنة مندوحة بغيرها. وروي أن رجلا عليلا جلس إلى عمر بن الخطاب فسأله عمر عن علته فأخبره وقال: إنه ليقال ما لي دواء أوفق من الحقنة. فقال له عمر: وإذا وجدت من شكواك شيئا فعد لها. وعن الواقدي قال: كان علي، وابن عباس، ومجاهد، والشعبي، والزهري، وعطاء، وإبراهيم النخعي، وأبو بكر بن حزم، والحكم بن عيينة، وربيعة، وابن هرمز يكرهونها إلا من ضرورة غالبة وكانوا يقولون: لا تعرفها العرب، وهي من فعل العجم، وهي طرف من عمل قوم لوط.
قال عبد الملك: وأخبرني مطرف عن مالك أنه كرهها، وذكر أن عمر بن الخطاب كرهها وقال: هي شعبة من عمل قوم لوط. قال عبد الملك: وسمعنا ابن الماجشون يكرهها ويقول: كان علماؤنا يكرهونها.
0 comments: