ما يفسد الصوم
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
قوله: (من أكل، أو شرب، أو استعط، أو احتقن، أو اكتحل بما يصل إلى حَلْقه فَسَدَ صومه، أو أدخل إلى جوفه شيئًا من أي موضع كان غير إحليله، أو استقاء، أو استمنى، أو باشر فأمنى، أو أمذى، أو كَرّرَ النظرَ فأنزل منيًّا فسد صومُه، أو حَجَمَ، أو احتجم عامدًا، وظهر دمٌ عامدًا ذاكرًا لصومه فسد صومُهُ، لا ناسيًا أو مكرهًا) [1].
قال في ((الإفصاح)): ((واختلفوا فيما إذا قاءَ عامدًا:
فقال مالك[2] والشافعي[3]: يفطر.
وقال أبو حنيفة[4]: لا يفطر إلا أن يكون مِلء فيه.
وعن أحمد[5] روايتان في القيء الذي ينقض الوضوء والفطر[6] معًا:
إحداهما: لا يفطر إلا بالفاحش منه، وهي المشهورة.
والثانية: بمِلء الفَمِ.
والثالثة: بما كان في نصف الفم.
وعنه رواية أخرى رابعة في انتقاض الوضوء بالقيء قليله وكثيره: وهي في الفطر أيضًا، إلا أن القيء الذي يفسد الصوم على اختلاف مذهبه في صفته، فإنه لم يختلف مذهبه في اشتراط التعمُّد فيه))[7].
((واتفقوا على أن الحجامة لا تفطر الصائم[8]، إلا أحمد[9] فإنه قال: يفطر بها الحاجم والمحجوم أخذًا بالحديث المروي في ذلك[10]، وهو مما رواه وعَمِل به، وليس هو في كتاب البخاري ومسلم.
واتفقوا على أنه إذا داوى جائفته[11] أو مأمومته[12] بدواء رطب فوصل إلى داخل دماغه أنه يجب عليه القضاء[13]، إلا مالكًا[14] فإنه قال: لا يجب عليه القضاء))[15].
((واختلفوا فيما إذا استعط بدهن أو غيره فوصل إلى دماغه:
فقال أبو حنيفة[16] والشافعي[17] وأحمد[18]: يُفطِر بذلك، وإن لم يصل إلى حلقه.
وقال مالك[19]: متى وصل إلى دماغه ولم يصل إلى حَلْقه لم يفطر))[20].
((واختلفوا فيما إذا اكتحل بما يصل إلى حَلْقه: إما لرطوبته كالأشياف[21]، أو لحدته كالذرور والطيب: فهل يفطر؟
فقال أبو حنيفة[22] والشافعي[23]: لا يفطر.
وقال مالك[24] وأحمد[25]: يفطر، وكذلك يفطر بكل ما وصل إلى حلقه من سائر المنافذ))[26].
((وأجمعوا على أن مَن ذرعه القيء فصومه صحيح[27]))[28].
((وأجمعوا على أن مَن فكَّر فأنزلَ أنَّ صومَه صحيح[29]، إلا مالكًا[30] فإنه قال: يفطر ويجب عليه القضاء.
وأجمعوا على أن مَن لمس فأمْذى أن صومَه صحيح[31]، إلا أحمد[32] فإنه قال: يفسد صومه وعليه القضاء.
واختلفوا فيما إذا نَظَرَ فأنزلَ: فقال أبو حنيفة[33] والشافعي[34]: صومه صحيح ولا قضاء عليه ولا كفارة.
وقال مالك[35]: عليه القضاء ولا كفَّارة، وقال أحمد[36] مثله.
واختلفوا فيما إذا كرَّر النظر فأنزل، فقال أبو حنيفة[37] والشافعي[38]: صومه صحيح، ولا قضاء عليه ولا كفَّارة.
وقال مالك[39]: عليه القضاء والكفَّارة وصومُه فاسد.
وعن أحمد[40] روايتان: إحداهما: صومه فاسد وعليه القضاء فقط، اختارها الخِرقي، والأخرى: كمذهب مالك))[41].
((واختلفوا فيما إذا قَطَرَ في إحليله:
فقال أبو حنيفة[42] ومالك[43] وأحمد[44]: لا يفطر.
وقال الشافعي[45]: يفطر، ويجب عليه القضاء))[46].
((واختلفوا في الفصد هل يفطر الصائم؟
فقال أبو حنيفة[47] ومالك[48] والشافعي[49]: لا يفطر الصائم بالفصد.
وقال أحمد[50]: يفطر الصائم بالفصد، وعن أحمد[51]: أنه لا يفطر الصائم بالفصد، وهو الصحيح من مذهب أحمد، ذكره في ((المحرَّر)) روايةً واحدةً.
وأجمعوا على أن الغبار والدخان والذباب والبق إذا دخل حَلْق الصائم لا يفسد صومه[52]))[53].
وقال ابن رشد: ((وأجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجِماع[54]؛ لقوله تعالى: ﴿ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187].
واختلفوا من ذلك في مسائل: منها مسكوت عنها، ومنها منطوق بها، أما المسكوت عنها: إحداها: فيما يرد الجوف مما ليس بمُغَذٍّ، وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة، وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة.
وسبب اختلافهم في هذه: هو قياس المغذِّي على غير المغذِّي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذِّي، فمن رأى أن المقصود بالصوم معنىً معقولٌ لم يُلْحِقْ المغذِّي بغير المغذِّي، ومن رأى أنها عبادة غير معقولة وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف سَوَّى بين المغذِّي وغير المغذِّي.
وتحصيل مذهب مالك[55]: أنه يجب الإمساك عما يصل إلى الحلق من أي المنافذ وصل مغذيًا كان أو غير مُغَذٍّ، وأما ما عدا المأكول والمشروب من المفطرات: فكلهم[56] يقولون: إن مَن قَبَّلَ فأمنى فقد أفطر، وإن أمذى فلم يفطر إلا مالك[57].
واختلفوا في القُبلة للصائم: فمنهم من أجازها، ومنهم من كرهها للشاب، وأجازها للشيخ، ومنهم من كرهها على الإطلاق، فمن رخَّص فيها فلِما رُوي من حديث عائشة وأم سلمة: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُقَبِّلُ وهو صائم[58]، ومن كرهها؛ فلما يدعو إليه من الوقاع.
وشذَّ قومٌ فقالوا: القُبلة تفطر، واحتجوا لذلك بما رُوي عن ميمونة بنت سعد، قالت: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القُبلة للصائم، فقال: (أفطرا جميعًا)، خرَّجَ هذا الأثر الطحاويُّ[59]، ولكن ضعَّفه.
وأما ما يقع من هذه من قِبَلِ الغَلَبة، ومن قِبَلِ النسيان فالكلام فيه عند الكلام في المفطرات وأحكامها.
وأما ما اختلفوا فيه مما هو منطوق به فالحجامة والقيء، أما الحجامة: فإن فيها ثلاثة مذاهب:
1- قوم قالوا: إنها تفطر وإن الإمساك عنها واجب، وبه قال أحمد[60] وداود[61] والأوزاعي وإسحاق بن راهويه.
2- وقوم قالوا: إنها مكروهة للصائم وليست تفطر، وبه قال مالك[62] والشافعي[63] والثوري.
3- وقوم قالوا: إنها غير مكروهة ولا مفطرة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه[64].
وسبب اختلافهم: تعارض الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان: أحدهما: ما روي من طريق ثوبان[65]، ومن طريق رافع بن خديج[66] أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (أفطر الحاجم والمحجوم).
وحديث ثوبان هذا كان يصحِّحه أحمد، والحديث الثاني: حديث عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم[67]. وحديث ابن عباس هذا صحيح.
فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب الترجيح.
والثاني: مذهب الجمع.
والثالث: مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ.
فمن ذهب مذهب الترجيح قال بحديث ثوبان، وذلك أن هذا موجب حكمًا، وحديث ابن عباس رافعه، والموجب مُرَجَّح عند كثير من العلماء على الرافع؛ لأن الحكمي إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه.
وحديث ثوبان قد وجب العمل به، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخًا، ويحتمل أن يكون منسوخًا، وذلك شَكٌّ، والشَّكُّ لا يوجب عملاً، ولا يرفع العلم الموجب للعمل، وهذا على طريقة من لا يرى الشك مؤثرًا في العلم.
ومن رام الجمعَ بينهما حَمَلَ حديثَ النهي على الكراهية وحديث الاحتجام على رفع الحظر.
ومن أسقطهما للتعارض قال بإباحة الاحتجام للصائم.
وأما القيء: فإن جمهور الفقهاء على أن من ذَرَعَه القيء فليس بمفطر[68]، إلا ربيعة فإنه قال: إنه مفطر.
وجمهورهم[69] أيضًا على أن من استقاء فقاء فإنه مفطر إلا طاوس))[70].
وقال البخاريُّ: (((باب: المباشرة للصائم).
وقالت عائشة رضي الله عنها: يحرم عليه فَرْجها.
حدثنا سليمان بن حرب، قال: عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّل ويُباشر وهو صائم، وكان أملككم لإَرَبِهِ[71])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: المباشرة للصائم)، أي: بيان حكمها... إلى أن قال: قوله: (كان يُقبِّل ويباشِر وهو صائم)، التقبيل: أَخَصُّ من المباشرة، فهو من ذِكر العام بعد الخاص، وقد اختلف في القُبلة والمباشرة للصائم...
إلى أن قال: وفرَّق آخرون بين من يملك نفسه ومن لا يملك؛ كما أشارت إليه عائشة.
واختُلف فيما إذا باشر، أو قَبَّل، أو نَظَر، فأنزل، أو أمْذى:
فقال الكوفيون[72] والشافعي[73]: يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء.
وقال مالك[74] وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفِّرُ، إلا في الإمذاء فيقضي فقط، واحتجَّ بأن الإنزال أقصى ما يطلب بالجِماع من الالتذاذ في كل ذلك.
وتُعقِّب: بأن الأحكام عُلِّقتْ بالجِماع ولو لم يكن إنزال فافترقا.
وروى عيسى بن دينار، عن ابن القاسم، عن مالك: وجوب القضاء في من باشر أو قبَّل فأنعظ ولم يُمْذِ ولا أنزل، وأنكره غيرُه عن مالك، وأبلغ من ذلك ما روى عبدالرزاق، عن حذيفة: (من تأمل خَلْق امرأته وهو صائم بطل صومه)[75]، لكن إسناده ضعيف.
وقال ابن قُدامة: إن قَبَّل فأنزل أفطر بلا خلاف، كذا قال، وفيه نظر.
فقد حكى ابنُ حزم[76]: أنه لا يفطر ولو أنزل، وقوَّى ذلك وذهب إليه))[77].
وقال البخاريُّ أيضًا: (((باب: القبلة للصائم)، وقال جابر: إن نظر فأمذى[78] يتم صومه.
وذكر حديث عائشة وحديث أم سلمة، وفيه: وكان يقبِّلها وهو صائم[79])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: القبلة للصائم)، أي: بيان حكمها... إلى أن قال: وقال المازَري[80]: ينبغي أن يُعتبر حال المُقبِّل، فإن أثارت منه القُبلة الإنزال حرمت عليه؛ لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدَّى إليه، وإن كان عنها المذي، فمن رأى القضاء منه قال: يحرم في حقِّه، ومن رأى أن لا قضاء قال: يُكره، وإن لم تُؤَدِّ القُبلة إلى شيء، فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسدِّ الذَّريعة))[81].
وقال البخاريُّ أيضًا: (((باب: الحجامة والقيء للصائم).
وقال لي يحيى بن صالح: حدثنا معاوية بن سلام، حدثنا يحيى، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، سمع أبا هريرة رضي الله عنه: إذا قاء فلا يفطر، إنما يُخْرِجُ ولا يُوْلِجُ، ويذكر عن أبي هريرة: أنه يفطر، والأول أَصَحُّ.
وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان يحتجم بالليل. واحتجم أبو موسى ليلاً. ويُذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة: احتجموا صُيَّامًا. وقال بكير، عن أم علقمة: كنا نحتجم عند عائشة فلا نُنْهَى. ويروى عن الحسن، عن غير واحد مرفوعًا: (أفطر الحاجم والمحجوم). وقال لي عياش: حدثنا عبدالأعلى، حدثنا يونس، عن الحسن مثله، قيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ثم قال: الله أعلم.
حدثنا معلَّى بن أسد، حدثنا وهيب، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرِم، واحتجم وهو صائم[82].
حدثنا أبو معمر، حدثنا عبدالوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم[83].
حدثنا آدم بن إياس، حدثنا شعبة، قال: سمعت ثابتًا البناني، قال: سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف، وزاد شبابة: حدثنا شعبة: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم[84])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: الحجامة والقيء للصائم)، أي: هل يفسدان ههما أو أحدهما الصوم أو لا؟
قال الزين بن المُنيِّر: جمع بين القيء والحجامة مع تغايرهما وعادته تفريق التراجم إذا نظمها خبر واحد فضلاً عن خبرين، وإنما صنع ذلك لاتحاد مأخذهما؛ لأنهما إخراج لا يقتضي الإفطار.
وقد أومأ ابن عباس إلى ذلك كما سيأتي البحث فيه، ولم يذكر المصنف حكم ذلك، ولكن إيراده للآثار المذكورة يُشعِر بأنه يرى عدم الإفطار بهما، ولذلك عقب حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) بحديث أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.
وقد اختلف السلف في المسألتين: أما القيء: فذهب الجمهور إلى التفرقة بين مَن سبقه فلا يفطر[85]، وبين من تعمَّده فيفطر[86]...
إلى أن قال: وأما الحجامة: فالجمهور أيضًا على عدم الفطر بها مطلقًا[87].
وعن علي، وعطاء، والأوزاعي، وأحمد[88]، وإسحاق، وأبي ثور: يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء، وشذّ عطاء فأوجب الكفارة أيضًا، وقال بقول أحمد من الشافعية: ابن خزيمة، وابن المنذر[89]، وأبو الوليد النيسابوري، وابن حبان، ونقل الترمذي عن الزعفراني: أن الشافعي علَّق القول على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية، وحجَّة الفريقين قد ذكرها المصنف في هذا الباب.
قوله: (وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج).
أما قول ابن عباس: فوصله ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس في الحجامة للصائم، قال: (الفِطر مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل)[90]...
إلى أن قال: وقال أحمد: أصحُّ شيء في باب: (أفطر الحاجم والمحجوم) حديث رافع بن خديج.
قال الحافظ: يريد: ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبدالله ابن قارظ، عن السائب بن يزيد، عن رافع[91].
لكن عارض أحمدَ يحيى بن معين في هذا، فقال: حديث رافع أضعفهما، وقال البخاريُّ: هو غير محفوظ، وقال أبو حاتم[92] عن أبيه: هو عندي باطل...
إلى أن قال: وقال الشافعي في ((اختلاف الحديث)) بعد أن أخرج حديث شداد، ولفظه: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان الفتح فرأى رجلاً يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان فقال - وهو آخذ بيدي -: (أفطر الحاجم والمحجوم)[93]، ثم ساق حديث ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. قال: وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادًا، فإن توقَّى أحدٌ الحجامة كان أحبَّ إليَّ احتياطًا، والقياس مع حديث ابن عباس، والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم: أنه لا يفطر أحد بالحجامة[94].
قال الحافظ: وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث ابن عباس عقب حديث (أفطر الحاجم والمحجوم)[95]...
إلى أن قال: ومن أحسن ما ورد في ذلك: ما رواه عبدالرزاق وأبو داود من طريق عبدالرحمن بن عابس، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الحِجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمها إبقاء على أصحابه[96]، إسناده صحيح. والجهالة بالصحابي لا تَضُرُّ. وقوله: (إبقاء على أصحابه) يتعلق بقوله: نهى، وقد رواه ابن أبي شيبة[97] عن وكيع، عن الثوري، بإسناده هذا، ولفظه: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: قالوا: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وكرهها للضعف، أي: لئلا يضعف))[98].
وقال الشيخ ابن سعدي:
((سؤال: ما هي مفسدات الصوم؟
الجواب: هي الأكل بجميع أنواعه، والشرب كذلك، والجِماع، فهذه مفطرات بالكتاب والسنة والإجماع، وهذا المقصود الأعظم في الإمساك عنها.
وكذلك من المفطرات أن يُباشِر بلذَّة فيمني أو يمذي على المذهب[99]. والقول الآخر[100]: إنه لا فطر إلا بالإمناء وهو الصحيح، لكن تحرم المباشرة بلذَّة للصائم والمصلِّي والمعتكف والمحرِم بحَجٍّ أو عُمرة، وينقض الوضوء وكذلك القيء عمدًا، ولا يفطر إن ذرعه القيء، وكذلك الحِجامة حاجمًا كان أو محجومًا.
وأما الاكتحال والتداوي والاحتقان ومداواة الجروح إذا وصل ذلك إلى حَلْقه أو جوفه فالمذهب[101] فِطره بذلك. واختار الشيخ تقي الدين[102]: لا فطر بذلك، وهو الصحيح؛ لأنه لم يرد فيه دليل صحيح ولا هو في حكم الأكل والشرب.
أما إيصال الأغذية بالإبرة إلى جوفه من طعام أو شراب: فلا يشك في فطره به؛ لأنه في معنى الأكل والشرب من غير فرق، فإن فعل شيئًا من المفطرات ناسيًا لم يفطر إلا في الجِماع على المذهب[103]، وعلى الصحيح[104]: حكمه كالأكل والشرب، وكذلك على الصحيح: الجاهل كالناسي، والله أعلم))[105].
وقال في ((الاختيارات)): ((ولا يفطر الصائم بالاكتحال والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة وهو قول بعض أهل العلم، ويفطر بإخراج الدم بالحجامة، وهو مذهب أحمد[106]، وبالفصد والتشريط وهو وجه لنا، وبإرعاف نفسه، وهو قول الأوزاعي.
ويفطر الحاجم إن مَصَّ القارورة، ولا يفطر بمذي بسبب قُبلة أو لمس أو تكرار نظر، وهو قول أبي حنيفة[107] والشافعي[108] وبعض أصحابنا[109].
وأما إذا ذاق طعامًا ولَفَظَه أو وضع في فيه عسلاً ومَجَّهُ فلا بأس به للحاجة كالمضمضة والاستنشاق، وشم الروائح الطيبة لا بأس به للصائم))[110].
[1] الروض المربع ص181.
[2] الشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 523.
[3] تحفة المحتاج 3/ 398، ونهاية المحتاج 3/ 164.
[4] فتح القدير 2/ 67- 68، وحاشية ابن عابدين 2/ 440- 441.
[5] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 413- 414.
[6] في هامش الأصل: لعله: والصوم، وصوابه: ويفطر كما في الإفصاح 3/ 98.
[7] الإفصاح 3/ 98- 99.
[8] فتح القدير 2/ 64- 65، وحاشية ابن عابدين 2/ 420 و438، وحاشية الدسوقي 1/ 518، والمنتقى شرح الموطأ 2/ 56، وتحفة المحتاج 3/ 411، ونهاية المحتاج 3/ 174.
[9] شرح منتهى الإرادات 2/ 362- 363، وكشاف القناع 5/ 252- 253.
[10] أخرجه أحمد 4/ 123- 124، وأبو داود 2369، والنسائي في الكبرى 2/ 217- 221 3138، وابن ماجه 1681، وابن حبان 8/ 302- 304 3533- 3534، والحاكم 1/ 428، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
قال البخاري كما في العلل للترمذي 1/ 362: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس وثوبان. قلت: وحديث ثوبان سوف يأتي تخريجه ص167. وقال إسحاق بن راهويه كما نقل الحاكم: هذا إسناد صحيح تقوم به الحجة.
[11] الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوفَ. المطلع ص367.
[12] المأمومة: الطعنة التي تصل إلى جلدة الدماغ. الدر النقي 3/ 714.
[13] فتح القدير 2/ 73، وحاشية ابن عابدين 2/ 428، وتحفة المحتاج 3/ 402، ونهاية المحتاج 3/ 166، وشرح منتهى الإرادات 2/ 361، وكشاف القناع 5/ 248 و251.
[14] الشرح الصغير 1/ 246، وحاشية الدسوقي 1/ 524.
[15] الإفصاح 1/ 390- 392.
[16] فتح القدير 2/ 72، وحاشية ابن عابدين 2/ 428.
[17] تحفة المحتاج 3/ 401، ونهاية المحتاج 3/ 166.
[18] شرح منتهى الإرادات 2/ 360، وكشاف القناع 5/ 247.
[19] الشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 524.
[20] الإفصاح 1/ 398.
[21] أدوية للعين ونحوها. القاموس ص1067.
[22] فتح القدير 2/ 65، وحاشية ابن عابدين 2/ 420- 421.
[23] تحفة المحتاج 3/ 403، ونهاية المحتاج 3/ 168.
[24] الشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 524.
[25] شرح منتهى الإرادات 2/ 360، وكشاف القناع 5/ 248.
[26] الإفصاح 1/ 400- 401.
[27] الإجماع 125، وفتح القدير 2/ 67، وحاشية ابن عابدين 2/ 440، والشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 523، وتحفة المحتاج 3/ 398، ونهاية المحتاج 3/ 164، وشرح منتهى الإرادات 2/ 364، وكشاف القناع 5/ 262.
[28] الإفصاح 1/ 391.
[29] فتح القدير 2/ 64، وحاشية ابن عابدين 2/ 421، وتحفة المحتاج 3/ 410، ونهاية المحتاج 3/ 173- 174، وشرح منتهى الإرادات 2/ 364، وكشاف القناع 5/ 261.
[30] الشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 529.
[31] تحفة المحتاج 3/ 409، ونهاية المحتاج 3/ 173، لكن مذهب المالكية كمذهب الحنابلة، راجع حاشية الدسوقي 1/ 518.
[32] شرح منتهى الإرادات 2/ 361، وكشاف القناع 5/ 251.
[33] فتح القدير 2/ 64، وحاشية ابن عابدين 2/ 421.
[34] تحفة المحتاج 3/ 410، ونهاية المحتاج 3/ 173- 174.
[35] الشرح الصغير 1/ 245- 249، وحاشية الدسوقي 1/ 518.
[36] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 418- 419.
[37] فتح القدير 2/ 64، وحاشية ابن عابدين 2/ 421.
[38] تحفة المحتاج 3/ 410، ونهاية المحتاج 3/ 173- 174.
[39] ليس هذا الحكم على إطلاقه هكذا عند المالكية، بل فيه تفصيل، قال في حاشية الدسوقي: والحاصل أنه إن أمنى بمجرَّد الفِكر والنظر من غير استدامة لهما فلا كفَّارة قطعًا، وإن استدامهما حتى أنزل فإن كانت عادته الإنزال بهما عند الاستدامة فالكفَّارة قطعًا، وإن كانت عادته عدم الإنزال بهما عند الاستدامة مخالفًا عادته وأمنى فقولان. انظر: الشرح الصغير 1/ 249، وحاشية الدسوقي 1/ 529.
[40] شرح منتهى الإرادات 2/ 361، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 418- 419، وكشاف القناع 5/ 252.
[41] الإفصاح 1/ 406- 407.
[42] فتح القدير 2/ 74، وحاشية ابن عابدين 2/ 424- 425.
[43] الشرح الصغير 1/ 252، وحاشية الدسوقي 1/ 524.
[44] شرح منتهى الإرادات 2/ 364، وكشاف القناع 5/ 261.
[45] تحفة المحتاج 3/ 401، ونهاية المحتاج 3/ 167.
[46] الإفصاح 1/ 411.
[47] حاشية ابن عابدين 2/ 437، والعناية شرح الهداية 2/ 376.
[48] حاشية الدسوقي 1/ 518.
[49] تحفة المحتاج 3/ 410، ونهاية المحتاج 3/ 174.
[50] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 422- 423.
[51] شرح منتهى الإرادات 2/ 363، وكشاف القناع 5/ 259.
[52] دعوى الإجماع هنا فيها نظر، لأن هناك خلافًا في الدُّخان. راجع في ذلك، فتح القدير 2/ 66، وحاشية ابن عابدين 2/ 420، وحاشية الدسوقي 1/ 525، والشرح الصغير 1/ 246 و251، وتحفة المحتاج 3/ 403، ونهاية المحتاج 3/ 168- 169، وشرح منتهى الإرادات 2/ 364، وكشاف القناع 5/ 261.
[53] الإفصاح 1/ 422.
[54] فتح القدير 2/ 62، وحاشية ابن عابدين 2/ 393- 394، والشرح الصغير 1/ 239، وحاشية الدسوقي 1/ 509، وتحفة المحتاج 3/ 370 و397، ونهاية المحتاج 3/ 148 و164، وشرح منتهى الإرادات 2/ 337، وكشاف القناع 5/ 247.
[55] الشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 523- 524.
[56] فتح القدير 2/ 65، والشرح الصغير 1/ 249، وحاشية الدسوقي 1/ 529، وتحفة المحتاج 3/ 409- 410، ونهاية المحتاج 3/ 173، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 416- 417.
[57] الشرح الصغير 1/ 244، وحاشية الدسوقي 1/ 518.
[58] أخرجه البخاري 1928، ومسلم 1106.
[59] شرح معاني الآثار 2/ 88.
[60] شرح منتهى الإرادات 2/ 362، وكشاف القناع 5/ 252- 253.
[61] المحلى 4/ 336- 337.
[62] حاشية الدسوقي 1/ 518، والمنتقى شرح الموطأ 2/ 56.
[63] تحفة المحتاج 3/ 411، ونهاية المحتاج 2/ 174.
[64] فتح القدير 2/ 64- 65، وحاشية ابن عابدين 2/ 420 و438.
[65] أخرجه أبو داود 2367 و2370- 2371، والنسائي في الكبرى 2/ 216 و221 3133- 3137، وابن ماجه 1680، وأحمد 5/ 276، من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[66] أخرجه الترمذي 774، وأحمد 3/ 465، وابن خزيمة 3/ 227 1964، وابن حبان 8/ 306 3535، والحاكم 1/ 428، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
قال الترمذي: حسن صحيح. ونقل عن أحمد: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع ابن خديج. وقال علي بن المديني فيما نقل الحاكم: لا أعلم في الحاجم والمحجوم حديثًا أصح من هذا.
وقال البخاري كما في العلل الكبير للترمذي ص121 208: هو غير محفوظ.
[67] البخاري 1939، ومسلم 1202.
[68] الإجماع 125، وفتح القدير 2/ 67، وحاشية ابن عابدين 2/ 440، والشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 523، وتحفة المحتاج 3/ 398، ونهاية المحتاج 3/ 164، وشرح منتهى الإرادات 2/ 364، وكشاف القناع 5/ 262.
[69] الإجماع 126، وفتح القدير 2/ 67- 68، وحاشية ابن عابدين 2/ 441، والشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 523، وتحفة المحتاج 3/ 398، ونهاية المحتاج 3/ 164، وشرح منتهى الإرادات 2/ 361، وكشاف القناع 5/ 249.
[70] بداية المجتهد 1/ 269- 270.
[71] البخاري 1927. وأخرجه أيضًا مسلم 1106.
[72] فتح القدير 2/ 64- 65، والجوهرة النيرة 1/ 139.
[73] تحفة المحتاج 3/ 409- 410، ونهاية المحتاج 3/ 173.
[74] الشرح الصغير 1/ 249، وحاشية الدسوقي 1/ 518 و529.
[75] عبدالرزاق 4/ 193 7452.
[76] المحلى 4/ 338- 339.
[77] فتح الباري 4/ 149- 151.
[78] كذا في الأصل، وفي صحيح البخاري: فأمنى.
[79] البخاري 1929.
[80] المعلم 2/ 33- 34.
[81] فتح الباري 4/ 152.
[82] البخاري 1938. أخرجه أيضًا مسلم 1202.
[83] البخاري 1938. أخرجه أيضًا مسلم 1202.
[84] البخاري 1940.
[85] الإجماع 125، وفتح القدير 2/ 67، وحاشية ابن عابدين 2/ 440، والشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 523، وتحفة المحتاج 3/ 398، ونهاية المحتاج 3/ 164، وشرح منتهى الإرادات 2/ 364، وكشاف القناع 5/ 262.
[86] الإجماع 126، وفتح القدير 2/ 67- 68، وحاشية ابن عابدين 2/ 441، والشرح الصغير 1/ 245، وحاشية الدسوقي 1/ 523، وتحفة المحتاج 3/ 398، ونهاية المحتاج 3/ 164، وشرح منتهى الإرادات 2/ 361، وكشاف القناع 5/ 249.
[87] فتح القدير 2/ 64- 65، وحاشية ابن عابدين 2/ 420 و438، وحاشية الدسوقي 1/ 518، والمنتقى شرح الموطأ 2/ 56، وتحفة المحتاج 3/ 411، ونهاية المحتاج 3/ 174.
[88] شرح منتهى الإرادات 2/ 362- 363، وكشاف القناع 5/ 252- 253.
[89] الإشراف 3/ 130 1161.
[90] ابن أبي شيبة 2/ 308.
[91] تقدم تخريجه 3/ 167.
[92] علل الحديث 1/ 249.
[93] تقدم تخريجه 3/ 167.
[94] اختلاف الحديث 1/ 197.
[95] الفتح 4/ 177.
[96] عبدالرزاق 4/ 212 7535، وأبو داود 2374.
[97] 2/ 309.
[98] فتح الباري 4/ 174- 178.
[99] شرح منتهى الإرادات 2/ 362، وكشاف القناع 5/ 275.
[100] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 453.
[101] شرح منتهى الإرادات 2/ 362، وكشاف القناع 5/ 247- 248.
[102] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 409- 413.
[103] شرح منتهى الإرادات 2/ 367، وكشاف القناع 5/ 268.
[104] انظر: الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 443.
[105] الإرشاد ص472- 473.
[106] شرح منتهى الإرادات 2/ 362- 363، وكشاف القناع 5/ 252- 253.
[107] الجوهرة النيرة 1/ 139.
[108] تحفة المحتاج 3/ 409- 410، ونهاية المحتاج 3/ 173.
[109] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 7/ 417- 418.
[110] الاختيارات الفقهية ص108.
0 comments: